ثم قال: "وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني مثل قراءة ابن مسعود، وأبي الدرداء رضي الله عنهما (والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى)". من قرأ بهذه القراءة في الصلاة؛ فإنه ينبذ كما نبذ ابن شنبوذ، ويفعل به كما فعل علماؤنا بـابن شنبوذ .
قال: "كما قد ثبت في الصحيحين " ونقول في المسألة: إنه لا يكفي مجرد الثبوت فقط "ومثل قراءة عبد الله : (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وكقراءته: (إن كانت الأزقية واحدة) ونحو ذلك، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ على قولين للعلماء، هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد، وروايتان عن مالك ؟
إحداهما: يجوز ذلك؛ لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة.
والثانية: لا يجوز ذلك، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وهذا القول هو الصحيح؛ لأنها لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتواتر شرط في القرآن بخلاف الحديث فإنه يعمل به آحاداً أو متواتراً.
ثم قال: "وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة" أي: لو فرض أنها ثبتت فتكون منسوخة بالعرضة الأخيرة، يعني: قد يصح عند أحد الصحابة قراءة ولكنه لم تبلغه العرضة الأخيرة. وهنا مسألة وهي: هل يشترط في الصحابة أنهم حفظوا القرآن كله وأنهم معصومون في ضبطه؟ لا يشترط ذلك؛ فلربما بلغته آية فقرأها وحفظها، ولكن في العرضة الأخيرة تغيرت القراءة أو نسخت القراءة وهو ما يزال يقرأ بها، فهو في ذاته مأجور إن شاء الله أو معذور. لكن من اقتدى به فهو مخطئ، وأما العرضة الأخيرة فهي قوله: "فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة" ففي الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن؛ فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة} وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيعرض عليه القرآن في كل عام مرة يقول رحمه الله: "فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين، والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره". فهي أضبط وأدق وأوفى القراءات والعرضات.
قال رحمه الله: "وهي التي أمر الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف، أُمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف، وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره" والنص على علي هنا قصد من عدة جهات: من ذلك أن الرافضة يقولون: إن علياً رضي الله عنه كان عنده القرآن الكامل فجاء به إلى الأول -ويعنون بالأول أبا بكر رضي الله عنه- فرده، ثم ذهب به إلى الثاني فرده، ثم ذهب به إلى الثالث فرده، فلما كتب الثالث المصاحف وأرسلها في الأمصار كأنه أحس بالندم؛ كما قال الجزائري الذي توفي في القرن الماضي وهو من أخبثهم؛ فقال له: "والله! لا أريكم إياه أبداً ما دام قد رددتموه أكثر من مرة، وإنما أجعله حتى يخرجه القائم من ذريتي" أي: المهدي، وهذا الكلام لا يليق بمن هو دون علي فكيف به وهو يسمع من يبدل كلام الله، ثم لا يتكلم ولا يغضب لله، ويترك الأمة على الضلال!
وأيضاً: علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان من القراء والحفاظ المشهورين، وكان هو أفضل الأمة بعد عثمان، وهو من الخلفاء الراشدين، وفي عهده أقر ذلك؛ فإقراره هذا له اعتباره من هذا الوجه.
ثم قال رحمه الله: "وهذا النزاع لابد أن يبنى على الأصل الذين سأل عنه السائل، وهو أن القراءات السبعة هل هي حرف من الحروف السبعة أم لا؟". رجح الشيخ رحمه الله أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على حرف واحد فقط، والموجود الآن من القراءات السبع أو العشر هي في الحرف الواحد.
يقول رحمه الله: "فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة" أي: إن عثمان جمع الأمة على حرف واحد، ومن هذا الحرف تفرعت القراءات والأوجه.
يقول رحمه الله: "وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، والأحاديث والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول". أي: أن شيخ الإسلام يرجح هذا القول، لكن النزاع في هذا شديد وقوي عند أهل القراءات وأهل علوم القرآن.